تجربة الإخوان المسلمين فى التاريخ المعاصر .. قراءة فى فكر رءوف عباس
تأتى الذكرى الرابعة للراحل العظيم رءوف عباس لتجعلنا مجدداً نمعن النظر وبعمق، نقلب الصفحات فى انتاجه الأكاديمى الممتع، والذى لا نزال نقف أمامه فى حالة من الإنبهار: فكتبه وبحوثه ومقالاته العديدة تشكل منجماً للأفكار والآراء والتحليلات والرؤى النقدية الواعية التى جاءت نتاجاً لنحو أربعين عاماً قضاها فى دراسة تاريخ المجتمع المصرى، وفهم معدنه الأصيل ، والوقوف على حركته الاجتماعية المتواصلة علىى مدار التاريخ الحديث والمعاصر، والتى تبوأت المكانة المركزية فى جُلَّ بحوثه ودراساته، يُحلل ظرفية تكوينها وعوامل تشكُلِها، ويضعها داخل السياق التاريخى الكاشف لدورها فى إحداث التغيير وصناعة التطور.
ولما كانت التطورات الأخيرة التى أعقبت قيام ثورة 25 يناير (2011م) قد أسفرت عن وصول "الإخوان المسلمين" إلى سدة الحكم، فقد وجدنا من الأهمية أن نتذكر ما كتبه رءوف عباس عن الإخوان المسلمين كفصيل سياسى شكَّل تياراً مهماً فى الساحة السياسة المعاصرة.
إن تجربة الإخوان المسلمين، بكل منحنياتها وتعرجاتها، بين شرعية العمل السياسى ونزع الشرعية وتحريم المشاركة والبقاء تحت الرقابة المجهرية ومطاردة الأمن والزج بهم فى غياهب السجون ثم البروز على الساحة من جديد وبلوغ سدة الحكم – جديرة حقاً بالدراسة، وخاصة مع كل جديد يُكشف عنه من الوثائق. بيد أن ما تطمح هذه المداخلة إلى تقديمه ليس استعراضاً لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين ولا تحليل بنائها التنظيمى وتتبع دورها على الساحة السياسية، وإنما رهان المداخلة يقوم بشكل محدد على تقديم قراءة تحليلية لطريقة تناول رءوف عباس لهذه الجماعة والكشف عن طبيعة المقاربة النقدية التى صاغ من خلالها تاريخها فى سياق يتقاطع مع التطور العام لتاريخ مصر المعاصر.
وفى الحقيقة يمكن تمييز مقاربتين نقديتين، وإن لم يفصح صراحة عنهما، وهما: النقد الأكاديمى الموضوعى " للتجربة الإخوانية " ، وذلك بوصفه مؤرخاً نزيهاً، يؤصل فهماً وتحليلاً لها من منطلق الدراسة العلمية المستندة إلى الوثائق والمصادر التاريخية. والمقاربة الثانية تمثل " النقد التفسيرى " بوصفه مفكراً مدققاً ومتابعاً للمشهد السياسى المعاصر، مهموماً بخطورة تجليات الأزمة السياسية وتأثيراتها على المسألة الاجتماعية، ومساهماً فى مناقشتها ووضع حلول ناجزة لها.
فى البداية يتعين أن نشير إلى أنه عالج "حركة الإخوان المسلمين" كجزء من ظاهرة سياسية اجتماعية كبيرة ماجت بها البلاد، خلال الحقبة الواقعة بين ثورتى 1919 و1952م، وهى الظاهرة التى أطلق عليها اصطلاحاً "الحركات الايديولوجية" أو "الحركات السياسية ذات التوجهات الايديولوجية"؛ وعنى بها كل من (الحركة الاشتراكية، والإخوان المسلمين، ومصر الفتاة)، مركزاً تحليله للسمات الرئيسة التى جمعت بين الحركات الثلاث؛ سعياً إلى وضعهم داخل سياق التطورات السياسية العامة لتلك الحقبة: فكل من هذه الحركات الايديولوجية استند إلى أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة ، وكل منها رفض منهجية الأحزاب التقليدية (اللبرالية) القائمة على أسلوب التفاوض فى سبيل استكمال الاستقلال الوطنى، وإهمال المسألة الاجتماعية. بيد أن السمة المشتركة الأكثر أهمية التى يلفت رءوف عباس الانتباه إليها أن الحركات الثلاث اتفقت جميعاً فى عدم تمثلها للأطر المرجعية التى استمدت منها أفكارها، وعدم توصلها إلى صيغة رصينة لمشروع نهضوى يتلاءم مع الواقع المصرى الاقتصادى والاجتماعى.
ويلاحظ أن رءوف عباس لا يولى اهتماماً كبيراً بالتفاصيل الزائدة الكامنة فى الوثائق والمصادر التاريخية بشأن نشأة الجماعة وتكوين كوادرها، وفى المقابل ركز معالجته على تحليل الظرف التاريخى لميلاد " الجماعة " ربطاً بسياق المرحلة التى انبثقت عنها، مع تركيزه على الكيفية التى تحولت معها من جماعة دينية إلى فصيل سياسى نشط ومزاحم على امتلاك السلطة: فقد أوضح رءوف عباس أن الظاهرة مركبة ومن ثم فعواملها متنوعة، بعضها عوامل داخلية تمثلت فى الإحباط الذى عانى منه شباب ثورة 1919 : فبعد كل ما قدموه من تضحيات وشهداء من أجل تحقيق الاستقلال التام، جاء تصريح 28 فبراير 1922 ليسلب الاستقلال مضمونه الحقيقى ، ويجد الشباب أن شيئاً لم يتغير من جوهر الهيمنة البريطانية على مصر. كما أن الواقع الاقتصادى والاجتماعى الذى عاشته مصر خلال الحرب الأولى لم يتغير أيضاً بعد الثورة، فاستمر الأجانب يتمتعون بخيرات البلاد، ويعيشون فى وضع ممتاز، بينما ظل المصريون غرباء فى بلادهم، فأصبح الاستقلال المنشود سرابا على مائدة المفاوضات، والعدل الاجتماعى حلما بعيد المنال. فى هذا المناخ لم يجد الشباب بداً من البحث عن طريق آخر للنهضة يُحقق لهم أملهم فى العدل الإجتماعى وأمل وطنهم فى الاستقلال. ثم جاء دور العامل الخارجى وانعكاساته على المجتمع المصرى ليهيئ المناخ لظهور هذه الحركة ؛ ويمثله هنا حادثة " إلغاء الخلافة الإسلامية " على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، وما تمخض عنها من نتائج مؤرة، تأرجحت بين مشاعر الجذع، والدعوة إلى إحياء الخلافة عند البعض، ومشاعر الارتياح والدعوة إلى العلمانية عند البعض الآخر. وما ترتب على ذلك من ردود أفعال من جانب فريق من الشباب رأى السلامة فى التمسك بتراث السلف، وصياغة النظام الاجتماعى على هديه، وهو ما كان يعنى السير عكس حركة المجتمع.
أما المحور الثانى فقد دار حول سياق اللحظة التى اختارت فيه جماعة الإخوان المسلمين اقتحام مجال العمل السياسى : فثمة ربع قرنٍ فاصلةٍ بين نشأة الجماعة فى العام 1928 وبين قرار حلِّها والإطاحة بقيادتها فى عام 1954، وفى مقابل اختزال العقد الأول الذى شكَّل مرحلة التأسيس للدعوة والانتشار من خلال النشاط الدينى والاجتماعى، يجرى التركيز عند رءوف عباس على الخمس عشرة سنة التالية (يناير 1939- مارس 1954)، فى تحليل الخط السياسى للجماعة وتفسير مواقفها إزاء متناقضات العمل السياسى، والعمل على حماية مصالحها بما يخدم غايتها الأساسية وهى الاستلاء على السلطة.
توضح المعالجة أن هناك استراتيجية واضحة، المرحلة الأولى والتى استغرقت عقداً كاملاً يتعين أن تقتصر على تكوين الكوادر والانتشار فى طول البلاد وعرضها، وهو ما تطلب بالضرورة تجنب اتخاذ موقف سياسى محدد قد يعرض الجماعة للدخول فى صراعات تهدد وجودها ذاته وهى لاتزال فى مرحلة البناء. ومع بدء دخول المرحلة الثانية (مرحلة العمل السياسى) تبحث الجماعة فى الساحة السياسية عن قوة دعم سياسى، وحين وجدت ضالتها فى فكرة الخلافة التى جذبت الملك الشاب (فاروق الأول) ، راحت تلعب على مغازلته بها ، فلقبته بـ "بالملك الصالح"، وكرست جهودها فى إحياء فكرة تولى ملك مصر خلافة المسلمين، وإضفاء هالة دينية حول شخصه. كانت هذه هى الأرضية التى جمعت الجماعة بالقصر، وبات الطريق ممهداً لدخول الجماعة ميدان العمل السياسى وهو ما تم الإعلان عنه صراحة فى يناير 1939.
إن التحليل الذى قدمه رءوف عباس لدخول الإخوان المسلمين معترك الحياة السياسية رسم صورة فصيل سياسى واعٍ بمصالحه، محدد الاتجاه والأهداف، يعمل على تنمية قوة الجماعة، وادخارها للحظة التى يتعين استغلالها فى الوثوب على السلطة ، ولا مانع عندئذ من التعامل مع جميع المتناقضات السياسية طالما أنها ستدعم التوجه نحو الهدف المحدد : ففى بداية دخولهم لميدان العمل السياسى وجدوا أنهم أمام خيارين لا ثالث لهما : الارتباط بالوفد، أو الارتباط بالقصر (الملك). ولما كان الارتباط بالوفد يعنى الذوبان فى تنظيم سياسى يعبر عن الحركة الوطنية المصرية والانطواء تحت قيادة شعبية تتمتع بشرعية تاريخية مستمدة من ثورة 1919، والتسليم بالنظام البرلمانى اللبرالى الذى يقف الوفد حارسا له، فإن قيادة الإخوان فضلت الارتباط بالقصر طالما كان هذا الارتباط يوفر لها الحماية، ويضمن لها مزاولة نشاطها دون التعرض لخطر الوفد.
وبالفعل زاد نشاطهم فى عهد " وزارات القصر"، واتسع حجم " فرق الجوالة الإخوانية". وإذا كان الإنجليز قد ساورهم القلق فى البداية من ازدياد قوة انتشار هذا الفصيل السياسى الذى بات نداً قوياً للوفد، وتخشى من ارتمائه فى أحضان القصر، مما يخل بلعبة التوازنات السياسية، فإنهم جدّوا فى التواصل معه (منذ خريف 1941)، ولم يجدوا صعوبة فى عقد صفقة تم بموجبها امتناع الإخوان عن مساندة القصر أو القيام بأى نشاط معاد للإنجليز، فى مقابل تغاضى الإنجليز عن نشاط الإخوان فى الريف والمدن والمدارس.
وسرعان ما ظهر أثر ذلك واضحاً جلياً فى امتناعهم عن المشاركة فى المظاهرات التى شهدتها القاهرة والإسكندرية فى مطلع 1942 والتى كانت تنادى روميل بالتقدم (تقدم يا روميل)، كما أن الإخوان لم يناصبوا حكومة 4 فبراير الوفدية العداء، لما وجدوها مؤيدة من الإنجليز، وتجنبوا إصدار أى بيان يُحدد موقفاً محدداً من الاستعمار أو الإنجليز. كذلك لم يتورط الإخوان فى أى عمل من أعمال المقاومة السرية ضد الإنجليز قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
إن الساحة السياسية الزاخمة بتناقض المصالح والاتجاهات شكلت تحدياً كبيراً، بيد أن الجماعة ومؤسسها كانوا على مستوى هذا التحدى والذى صنع خطاً سياسياً لا يحيدون عنه: فلا يمكن الإنسياق وراء إرادة فصيل مجاور أو معارض فى مواجهة قوة السلطة طالما أن نتائج ذلك محدودة أو مهددة لكيان الجماعة، كما لا يمكن المغامرة دون التحسب لكل الظروف، وتعظيم الفوائد التى تدعم وجودهم وهدفهم نحو السلطة. ولعل مقولة البنا رداً على طلب أحمد حسين – رئيس مصر الفتاة – بالاستعانة بالجماعة فى تنفيذ خطة عمل أعدها ضد الإنجليز عند شروع الألمان فى الهجوم على الجزر البريطانية، لها دلالاتها فى تأكيد هذه الاستراتيجية الاحترازية، فكان مما قاله له: "أننا لا نبحث عن مغامرة قد تخيب وتفشل، وإنما نعد أنفسنا لعمل قوى ناجح، لأن الفشل يكون كارثة، لا على حركتنا أو مصر فحسب، بل على العالم الإسلامى كله". والموقف نفسه يتكرر فى ظروف مغايرة حينما أقدمت حكومة الوفد على إلغاء معاهدة 1936 (أكتوبر 1951) وإعلان الكفاح المسلح فى منطقة القناة، رأى الإخوان –بزعامة حسن الهضيبى هذه المرة– أن يضنوا بقوتهم على العمل الوطنى، وأعلن الهضيبى لجريدة "الجمهور المصرى" بأن أعمال العنف لا تخرج الإنجليز من البلاد ... إن واجب الحكومة أن تفعل ما يفعله الإخوان المسلمون من تربية الشعب وإعداده، فذلك هو الطريق لإخراج الإنجليز". كما راح الهضيبى يوضح للملك خلال مقابلة معه (تمت فى 20 نوفمبر 1951) أكد للملك أن الجماعة ليس لديها نية المشاركة فى حركة الكفاح المسلح التى وصفها بـ"الأعمال الإرهابية" ، وأنهم يدخرون قوتهم فى تأييد الملك . لقد بدا واضحاً أن مداعبة كل من الإنجليز والملك بالشكل الذى يجلب لهم المنافع ويوسع فرص صعودهم السياسى أجدى لهم من الإندماج فى العمل الوطنى والتضحية ببعض اتباعهم فى حركة الكفاح المسلح.
وهكذا، فى الوقت الذى كانت فيه الجماهير المصرية معبأة لمتابعة المقاومة المسلحة ضد الوجود البريطانى فى القناة، وفى الوقت الذى كان الشهداء فيه يتساقطون فى معارك أثارت قلق البريطانيين الذين فكروا فى احتلال مدن القناة وتحويل المنطقة كلها إلى منطقة عسكرية بريطانية لا تخضع للسلطة المصرية ويحكمها حاكم عسكرى بريطانى، كانت قيادة الإخوان تثبط الهمم بحجج واهية تخفى وفاقها السياسى مع القصر – ومن خلاله – مع الإنجليز. ويخلص رءوف عباس إلى نتيجة أساسية وهى أن جماعة الإخوان قدمت مصالحها الخاصة على مصالح الوطن، برغم امتلاكها فرقاً شبه عسكرية من الجوالة، سلحتها خلال الحرب العالمية الثانية وكان بإمكانها المشاركة الفعالة، لكنها ضنت بمشاركتها فى العمل الوطنى.
إن المعالجة الاستدلالية المدعمة بالشواهد مكنت رءوف عباس من إقناع القارىء بالأسباب التى جعلت كل من الإنجليز والقصر يتسابقان على احتضان هذا الفصيل السياسى بديلاً عن الوفد. وفى الوقت الذى بدأ الإنجليز يتأهبون فيه للتعاون مع الإخوان، والتحسب لمواجهة الموقف فى حالة فوز الإخوان فى الانتخابات بالحكم، حدث ما لم يكن فى الحسبان، فقامت ثورة 23 يوليو 1952، وكان ما كان من إلغاء الأحزاب السياسية وتعطيل العمل بدستور 1923 ثم إلغائه، ولم يبق على المسرح السياسى المصرى سوى الإخوان المسلمين الذين كانت علاقتهم برجال الثورة واضحة، وهنا بدأ الإنجليز البحث عن صفقة سياسية جديدة يعقدونها مع الإخوان.
ولطالما كان رءوف عباس يحسم القضايا الخلافية من خلال حرصه الدءوب على متابعة ما كانت تفرج عنه دور الأرشيف البريطانى والأمريكى، فيسارع فى نشر الوثائق ومحاضر الجلسات السرية المهمة ليدعم بها تحليلاته، ويفند بها الروايات الإخوانية المضطربة؛ مثلما نشر محضر محادثة بين المستر إيفانز (المستشار الشرقى للسفارة البريطانية) والمرشد العام للإخوان المسلمين فى 24 فبراير 1953 والتى أوضحت - بما لا يقبل الشك - وجود اتصالات سرية تمت بين الإنجليز والإخوان من وراء مجلس قيادة الثورة؛ حيث لم يعلم بها إلا بعد مرور ثلاثة شهور!. لقد أبدى الإخوان فى تلك الجلسات السرية عدم ممانعتهم الارتباط بمعاهدات سرية مع الغرب – وبريطانيا بالذات – وذلك باعتبارها - بحسب ما جاء على لسان الهضيبى :" أقرب الشعوب إلى الإسلام وأصلحها لصداقة المسلمين" !.
ووفقاً لهذه المحادثات كان الإخوان سيسمحون لبريطانيا وحلفائها باستخدام القواعد العسكرية فى حالة تعرض المنطقة للهجوم . ينتهى رءوف عباس من قراءته التحليلية للوثائق البريطانية بأن الإخوان كانوا يرسمون إستراتيجية خاصة بهم بمعزل عن مجلس قيادة الثورة الذى كانوا يعدون أنفسهم لوراثة دوره فى حكم مصر. وكان الإنجليز، فى الوقت نفسه، يعدون العدة لاتخاذ الإخوان آداة معارضة ضد مجلس قيادة الثورة. بيد أن الأخير تيقظ لخطورة المسألة وقرر الإطاحة بهم وحل الجماعة واعتقال كوادرها فى 14 يناير 1954. وبذلك طوى مجلس قيادة الثورة صفحة هامة من تاريخ الإخوان المسلمين.
كانت هذه هى خلاصة المقاربة النقدية على المستوى الأكاديمى الموضوعى، فى حين جاءت مقاربة رءوف عباس على مستوى النقد التفسيرى نتاجاً لمعايشته ومتابعته الدقيقة للمشهد السياسى بعين المؤرخ المحترف والمثقف السياسى الواعى والمتسلح بالخبرة التاريخية التى جعلت آراءه محكمة ومتماسكة وقوية. فقد تابع التطورات فى عقد السبعينات عند إطلاق السادات سراح المعتقلين (وخاصة الإخوان المسلمين)، ودعمه لهم فى مواجهة الإنتفاضة الطلابية التى قادها اليسار (الناصريون والماركسيون)، فبدت الدولة عندئذ حاضنة للجماعات الإسلامية، ووفرت لهم الدعم المادى والأمنى حتى نمت وترعرعت، ونشطت بقوة فى إعداد كوادرها اللازمة لحركتها، وأحسنت الاستفادة من حاجة السلطة إليها، ومن توجهات السلطة فى نقد الفترة الناصرية وإهالة التراب عليها. ولم تحاول الجماعة الاصطدام بالنظام حتى كان عام 1977، عندما أنعش نجاح الثورة الإيرانية آمال التيار الإسلامى فى بناء المجتمع الإسلامى الذى تحلم به، واستفزها احتضان السادات لشاه إيران رغم أن حلفيته أمريكا تخلت عنه ورفضت إقامته فى أرضيها، فجاهرت الجماعات الإسلامية بانتقاد موقف السادات، وأحست بقوتها، وبأنها لم تعد فى حاجة إلى النظام، فأنهت تحالفها معه، وبدأت تصطدم به، فتصاعد إيقاع العنف حتى بلغ الذروة باغتيال السادات، الذى كان كمن سعى لإخراج المارد من القمقم ظنا منه أنه سيسخره لخدمته، فاذا به يعصف بمن أطلق له العنان.
وتعود من جديد جماعة الإخوان المسلمين إلى العمل فى " العهد اللامباركى "، ولكن خارج إطار الشرعية أيضاً ، بيد أنها نجحت فى الترويج لنفسها والانتشار فى الأحياء الشعبية، وجاء فى حوار أجراه مجدى مهنا مع رءوف عباس (فى 29 يوليو 2007) :" لقد عملوا (الإخوان المسلمين) بطريقة جيدة لا تملك إلا أن تصفق لهم عليها، سواء اتفقت معهم أو لم تتفق. لقد بدأوا فى تقديم الخدمات الاجتماعية فى الوقت الذى ضعف فيه دور الدولة فى هذه الخدمات (مستوصفات علاجية، مدارس حضانة، مدارس إبتدائى، وبعد ذلك بدأوا يتدرجون فى المدارس). ولكنهم يقدمون هذه الخدمات للناس بشكل إنتقائى: للمسلمين فقط فى الأحياء الشعبية. وراحت الجمعيات القبطية والكنسية كرد فعل تعمل الشىء نفسه، حتى وصل الأمر إلى فرز فى سوق العمل فالمسلم لا يوظف إلا مسلماً والقبطى لا يوظف إلا قبطياً.
والأمر الآخر الذى لاحظه رءوف عباس أن الجماعات الإسلامية ركزت نشاطها على كليات التربية (وهو ما لم يلتفت إليه الكثيرون) وبالتالى انتجوا أفواجاً من المدرسين طوال السبعينات ومعظم الثمانينات من الذين تأثروا ليس فقط بالإخوان المسلمين وإنما بالفكر الوهابى المنغلق الذى ينتمى إلى ثقافة أخرى والذى يرفض الآخر الدينى ويعتبر من ليس مسلماً فهو كافر. وبالتالى بدلاً من التركيز على طلاب الجامعة بشكل عام، كان تركيزهم الأساسى على من سيعملون على تربية المواطنين. وهذا ما وسع من قواعدهم الشعبية المنظمة.
ومن جانب آخر رصد رءوف عباس استمرارية الخط السياسى بنفس قواعد اللعبة: فالإخوان يتجنبون الصدام المباشر مع السلطة، ويبحثون عن فصيل سياسى معارض يثير قلق النظام ويتداخلون معه، إلا أنهم فى الوقت نفسه وبنفس الطابع الانتهازى لا يثبتون معه على موقف واضح ومحدد ، على نحو ما فعلوه مع " حركة كفاية" التى كان رءوف عباس أحد أبرز أعضائها، فيروى لنا كشاهد عيان ومشارك فى المشهد : " أن الأخوان المسلمين أبدوا موقفاً إنتهازياً مع حركة كفاية؛ فنجدهم يقفون مع كفاية ليحققوا مكسباً مؤقتاً، عندما يكون بينهم وبين النظام مشكلة ، ثم ينسحبون ويختفون من النشاط عندما يلوح لهم النظام بمنديل أخضر. وأنهم مستعدون لتوظيف الآخرين لخدمتهم ، وليس عندهم استعداد لخدمة الأخرين". وفى تقدير رءوف عباس أن أحد أسباب هذه الإنتهازية أنهم طامعون فى السلطة وغير مقتنعين بفكرة " تكوين جبهة وطنية" تضم كافة القوى السياسية من مختلف الإتجاهات والتيارات، تعمل على وضع ميثاق للعمل الوطنى، يصبح الجميع بموجبه شركاء فى "عملية البناء والإنقاذ".
ولطالما أكد مراراً وتكراراً أهمية تشكيل " جبهة وطنية " كحل أساسى لكل مجتمع يمر بظروفنا، وأن دور هذه الجبهة الوطنية رفع ركام ما حدث ، وإقامة بناء جديد، وانقاذ ما يمكن انقاذه. واعتبر رءوف عباس أن اقناع الناس أولاً بأهمية وجود هذه الجبهة وما يمكن أن تفعله من أجلهم شرطاً أساسياً لجذب الجماهير بالوقوف وراءها وتدعيمها.
ترى ما الذى كان سيقوله أو كان سوف يكتبه رءوف عباس لو أطال الله عمره ليرى أن ثورة الشباب التى تنبأ هو نفسه بوقوعها قبل خمس سنوات من قيامها، قد جاءت إلى السلطة " بالفصيل الطريد" الذى وصفه فى واحدة من دراساته بأنه " نجح فى تبديد طاقات الحركة السياسية لقطاع عريض من الجماهير المصرية"، إنه الفصيل الذى يسعى دوماً إلى القفز فوق كاهل القوى السياسية للوثوب على السلطة ووضعها بين قبضتيه؟
رحم الله فقيدنا الغالى، فارس القلم ، رمز الوطنية، مثال شرف الكلمة ، الأب والصديق الحميم ، الذى سنظل بإذن الله أوفياء له ، ساهرين على حفظ تراثه الخالد الملىء بالنظرات والعبر ، داعين الله عز وجل أن يسكنه فسيح جناته.
د. ناصر أحمد إبراهيم
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المساعد
آداب القاهرة
تأتى الذكرى الرابعة للراحل العظيم رءوف عباس لتجعلنا مجدداً نمعن النظر وبعمق، نقلب الصفحات فى انتاجه الأكاديمى الممتع، والذى لا نزال نقف أمامه فى حالة من الإنبهار: فكتبه وبحوثه ومقالاته العديدة تشكل منجماً للأفكار والآراء والتحليلات والرؤى النقدية الواعية التى جاءت نتاجاً لنحو أربعين عاماً قضاها فى دراسة تاريخ المجتمع المصرى، وفهم معدنه الأصيل ، والوقوف على حركته الاجتماعية المتواصلة علىى مدار التاريخ الحديث والمعاصر، والتى تبوأت المكانة المركزية فى جُلَّ بحوثه ودراساته، يُحلل ظرفية تكوينها وعوامل تشكُلِها، ويضعها داخل السياق التاريخى الكاشف لدورها فى إحداث التغيير وصناعة التطور.
ولما كانت التطورات الأخيرة التى أعقبت قيام ثورة 25 يناير (2011م) قد أسفرت عن وصول "الإخوان المسلمين" إلى سدة الحكم، فقد وجدنا من الأهمية أن نتذكر ما كتبه رءوف عباس عن الإخوان المسلمين كفصيل سياسى شكَّل تياراً مهماً فى الساحة السياسة المعاصرة.
إن تجربة الإخوان المسلمين، بكل منحنياتها وتعرجاتها، بين شرعية العمل السياسى ونزع الشرعية وتحريم المشاركة والبقاء تحت الرقابة المجهرية ومطاردة الأمن والزج بهم فى غياهب السجون ثم البروز على الساحة من جديد وبلوغ سدة الحكم – جديرة حقاً بالدراسة، وخاصة مع كل جديد يُكشف عنه من الوثائق. بيد أن ما تطمح هذه المداخلة إلى تقديمه ليس استعراضاً لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين ولا تحليل بنائها التنظيمى وتتبع دورها على الساحة السياسية، وإنما رهان المداخلة يقوم بشكل محدد على تقديم قراءة تحليلية لطريقة تناول رءوف عباس لهذه الجماعة والكشف عن طبيعة المقاربة النقدية التى صاغ من خلالها تاريخها فى سياق يتقاطع مع التطور العام لتاريخ مصر المعاصر.
وفى الحقيقة يمكن تمييز مقاربتين نقديتين، وإن لم يفصح صراحة عنهما، وهما: النقد الأكاديمى الموضوعى " للتجربة الإخوانية " ، وذلك بوصفه مؤرخاً نزيهاً، يؤصل فهماً وتحليلاً لها من منطلق الدراسة العلمية المستندة إلى الوثائق والمصادر التاريخية. والمقاربة الثانية تمثل " النقد التفسيرى " بوصفه مفكراً مدققاً ومتابعاً للمشهد السياسى المعاصر، مهموماً بخطورة تجليات الأزمة السياسية وتأثيراتها على المسألة الاجتماعية، ومساهماً فى مناقشتها ووضع حلول ناجزة لها.
فى البداية يتعين أن نشير إلى أنه عالج "حركة الإخوان المسلمين" كجزء من ظاهرة سياسية اجتماعية كبيرة ماجت بها البلاد، خلال الحقبة الواقعة بين ثورتى 1919 و1952م، وهى الظاهرة التى أطلق عليها اصطلاحاً "الحركات الايديولوجية" أو "الحركات السياسية ذات التوجهات الايديولوجية"؛ وعنى بها كل من (الحركة الاشتراكية، والإخوان المسلمين، ومصر الفتاة)، مركزاً تحليله للسمات الرئيسة التى جمعت بين الحركات الثلاث؛ سعياً إلى وضعهم داخل سياق التطورات السياسية العامة لتلك الحقبة: فكل من هذه الحركات الايديولوجية استند إلى أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة ، وكل منها رفض منهجية الأحزاب التقليدية (اللبرالية) القائمة على أسلوب التفاوض فى سبيل استكمال الاستقلال الوطنى، وإهمال المسألة الاجتماعية. بيد أن السمة المشتركة الأكثر أهمية التى يلفت رءوف عباس الانتباه إليها أن الحركات الثلاث اتفقت جميعاً فى عدم تمثلها للأطر المرجعية التى استمدت منها أفكارها، وعدم توصلها إلى صيغة رصينة لمشروع نهضوى يتلاءم مع الواقع المصرى الاقتصادى والاجتماعى.
ويلاحظ أن رءوف عباس لا يولى اهتماماً كبيراً بالتفاصيل الزائدة الكامنة فى الوثائق والمصادر التاريخية بشأن نشأة الجماعة وتكوين كوادرها، وفى المقابل ركز معالجته على تحليل الظرف التاريخى لميلاد " الجماعة " ربطاً بسياق المرحلة التى انبثقت عنها، مع تركيزه على الكيفية التى تحولت معها من جماعة دينية إلى فصيل سياسى نشط ومزاحم على امتلاك السلطة: فقد أوضح رءوف عباس أن الظاهرة مركبة ومن ثم فعواملها متنوعة، بعضها عوامل داخلية تمثلت فى الإحباط الذى عانى منه شباب ثورة 1919 : فبعد كل ما قدموه من تضحيات وشهداء من أجل تحقيق الاستقلال التام، جاء تصريح 28 فبراير 1922 ليسلب الاستقلال مضمونه الحقيقى ، ويجد الشباب أن شيئاً لم يتغير من جوهر الهيمنة البريطانية على مصر. كما أن الواقع الاقتصادى والاجتماعى الذى عاشته مصر خلال الحرب الأولى لم يتغير أيضاً بعد الثورة، فاستمر الأجانب يتمتعون بخيرات البلاد، ويعيشون فى وضع ممتاز، بينما ظل المصريون غرباء فى بلادهم، فأصبح الاستقلال المنشود سرابا على مائدة المفاوضات، والعدل الاجتماعى حلما بعيد المنال. فى هذا المناخ لم يجد الشباب بداً من البحث عن طريق آخر للنهضة يُحقق لهم أملهم فى العدل الإجتماعى وأمل وطنهم فى الاستقلال. ثم جاء دور العامل الخارجى وانعكاساته على المجتمع المصرى ليهيئ المناخ لظهور هذه الحركة ؛ ويمثله هنا حادثة " إلغاء الخلافة الإسلامية " على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، وما تمخض عنها من نتائج مؤرة، تأرجحت بين مشاعر الجذع، والدعوة إلى إحياء الخلافة عند البعض، ومشاعر الارتياح والدعوة إلى العلمانية عند البعض الآخر. وما ترتب على ذلك من ردود أفعال من جانب فريق من الشباب رأى السلامة فى التمسك بتراث السلف، وصياغة النظام الاجتماعى على هديه، وهو ما كان يعنى السير عكس حركة المجتمع.
أما المحور الثانى فقد دار حول سياق اللحظة التى اختارت فيه جماعة الإخوان المسلمين اقتحام مجال العمل السياسى : فثمة ربع قرنٍ فاصلةٍ بين نشأة الجماعة فى العام 1928 وبين قرار حلِّها والإطاحة بقيادتها فى عام 1954، وفى مقابل اختزال العقد الأول الذى شكَّل مرحلة التأسيس للدعوة والانتشار من خلال النشاط الدينى والاجتماعى، يجرى التركيز عند رءوف عباس على الخمس عشرة سنة التالية (يناير 1939- مارس 1954)، فى تحليل الخط السياسى للجماعة وتفسير مواقفها إزاء متناقضات العمل السياسى، والعمل على حماية مصالحها بما يخدم غايتها الأساسية وهى الاستلاء على السلطة.
توضح المعالجة أن هناك استراتيجية واضحة، المرحلة الأولى والتى استغرقت عقداً كاملاً يتعين أن تقتصر على تكوين الكوادر والانتشار فى طول البلاد وعرضها، وهو ما تطلب بالضرورة تجنب اتخاذ موقف سياسى محدد قد يعرض الجماعة للدخول فى صراعات تهدد وجودها ذاته وهى لاتزال فى مرحلة البناء. ومع بدء دخول المرحلة الثانية (مرحلة العمل السياسى) تبحث الجماعة فى الساحة السياسية عن قوة دعم سياسى، وحين وجدت ضالتها فى فكرة الخلافة التى جذبت الملك الشاب (فاروق الأول) ، راحت تلعب على مغازلته بها ، فلقبته بـ "بالملك الصالح"، وكرست جهودها فى إحياء فكرة تولى ملك مصر خلافة المسلمين، وإضفاء هالة دينية حول شخصه. كانت هذه هى الأرضية التى جمعت الجماعة بالقصر، وبات الطريق ممهداً لدخول الجماعة ميدان العمل السياسى وهو ما تم الإعلان عنه صراحة فى يناير 1939.
إن التحليل الذى قدمه رءوف عباس لدخول الإخوان المسلمين معترك الحياة السياسية رسم صورة فصيل سياسى واعٍ بمصالحه، محدد الاتجاه والأهداف، يعمل على تنمية قوة الجماعة، وادخارها للحظة التى يتعين استغلالها فى الوثوب على السلطة ، ولا مانع عندئذ من التعامل مع جميع المتناقضات السياسية طالما أنها ستدعم التوجه نحو الهدف المحدد : ففى بداية دخولهم لميدان العمل السياسى وجدوا أنهم أمام خيارين لا ثالث لهما : الارتباط بالوفد، أو الارتباط بالقصر (الملك). ولما كان الارتباط بالوفد يعنى الذوبان فى تنظيم سياسى يعبر عن الحركة الوطنية المصرية والانطواء تحت قيادة شعبية تتمتع بشرعية تاريخية مستمدة من ثورة 1919، والتسليم بالنظام البرلمانى اللبرالى الذى يقف الوفد حارسا له، فإن قيادة الإخوان فضلت الارتباط بالقصر طالما كان هذا الارتباط يوفر لها الحماية، ويضمن لها مزاولة نشاطها دون التعرض لخطر الوفد.
وبالفعل زاد نشاطهم فى عهد " وزارات القصر"، واتسع حجم " فرق الجوالة الإخوانية". وإذا كان الإنجليز قد ساورهم القلق فى البداية من ازدياد قوة انتشار هذا الفصيل السياسى الذى بات نداً قوياً للوفد، وتخشى من ارتمائه فى أحضان القصر، مما يخل بلعبة التوازنات السياسية، فإنهم جدّوا فى التواصل معه (منذ خريف 1941)، ولم يجدوا صعوبة فى عقد صفقة تم بموجبها امتناع الإخوان عن مساندة القصر أو القيام بأى نشاط معاد للإنجليز، فى مقابل تغاضى الإنجليز عن نشاط الإخوان فى الريف والمدن والمدارس.
وسرعان ما ظهر أثر ذلك واضحاً جلياً فى امتناعهم عن المشاركة فى المظاهرات التى شهدتها القاهرة والإسكندرية فى مطلع 1942 والتى كانت تنادى روميل بالتقدم (تقدم يا روميل)، كما أن الإخوان لم يناصبوا حكومة 4 فبراير الوفدية العداء، لما وجدوها مؤيدة من الإنجليز، وتجنبوا إصدار أى بيان يُحدد موقفاً محدداً من الاستعمار أو الإنجليز. كذلك لم يتورط الإخوان فى أى عمل من أعمال المقاومة السرية ضد الإنجليز قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
إن الساحة السياسية الزاخمة بتناقض المصالح والاتجاهات شكلت تحدياً كبيراً، بيد أن الجماعة ومؤسسها كانوا على مستوى هذا التحدى والذى صنع خطاً سياسياً لا يحيدون عنه: فلا يمكن الإنسياق وراء إرادة فصيل مجاور أو معارض فى مواجهة قوة السلطة طالما أن نتائج ذلك محدودة أو مهددة لكيان الجماعة، كما لا يمكن المغامرة دون التحسب لكل الظروف، وتعظيم الفوائد التى تدعم وجودهم وهدفهم نحو السلطة. ولعل مقولة البنا رداً على طلب أحمد حسين – رئيس مصر الفتاة – بالاستعانة بالجماعة فى تنفيذ خطة عمل أعدها ضد الإنجليز عند شروع الألمان فى الهجوم على الجزر البريطانية، لها دلالاتها فى تأكيد هذه الاستراتيجية الاحترازية، فكان مما قاله له: "أننا لا نبحث عن مغامرة قد تخيب وتفشل، وإنما نعد أنفسنا لعمل قوى ناجح، لأن الفشل يكون كارثة، لا على حركتنا أو مصر فحسب، بل على العالم الإسلامى كله". والموقف نفسه يتكرر فى ظروف مغايرة حينما أقدمت حكومة الوفد على إلغاء معاهدة 1936 (أكتوبر 1951) وإعلان الكفاح المسلح فى منطقة القناة، رأى الإخوان –بزعامة حسن الهضيبى هذه المرة– أن يضنوا بقوتهم على العمل الوطنى، وأعلن الهضيبى لجريدة "الجمهور المصرى" بأن أعمال العنف لا تخرج الإنجليز من البلاد ... إن واجب الحكومة أن تفعل ما يفعله الإخوان المسلمون من تربية الشعب وإعداده، فذلك هو الطريق لإخراج الإنجليز". كما راح الهضيبى يوضح للملك خلال مقابلة معه (تمت فى 20 نوفمبر 1951) أكد للملك أن الجماعة ليس لديها نية المشاركة فى حركة الكفاح المسلح التى وصفها بـ"الأعمال الإرهابية" ، وأنهم يدخرون قوتهم فى تأييد الملك . لقد بدا واضحاً أن مداعبة كل من الإنجليز والملك بالشكل الذى يجلب لهم المنافع ويوسع فرص صعودهم السياسى أجدى لهم من الإندماج فى العمل الوطنى والتضحية ببعض اتباعهم فى حركة الكفاح المسلح.
وهكذا، فى الوقت الذى كانت فيه الجماهير المصرية معبأة لمتابعة المقاومة المسلحة ضد الوجود البريطانى فى القناة، وفى الوقت الذى كان الشهداء فيه يتساقطون فى معارك أثارت قلق البريطانيين الذين فكروا فى احتلال مدن القناة وتحويل المنطقة كلها إلى منطقة عسكرية بريطانية لا تخضع للسلطة المصرية ويحكمها حاكم عسكرى بريطانى، كانت قيادة الإخوان تثبط الهمم بحجج واهية تخفى وفاقها السياسى مع القصر – ومن خلاله – مع الإنجليز. ويخلص رءوف عباس إلى نتيجة أساسية وهى أن جماعة الإخوان قدمت مصالحها الخاصة على مصالح الوطن، برغم امتلاكها فرقاً شبه عسكرية من الجوالة، سلحتها خلال الحرب العالمية الثانية وكان بإمكانها المشاركة الفعالة، لكنها ضنت بمشاركتها فى العمل الوطنى.
إن المعالجة الاستدلالية المدعمة بالشواهد مكنت رءوف عباس من إقناع القارىء بالأسباب التى جعلت كل من الإنجليز والقصر يتسابقان على احتضان هذا الفصيل السياسى بديلاً عن الوفد. وفى الوقت الذى بدأ الإنجليز يتأهبون فيه للتعاون مع الإخوان، والتحسب لمواجهة الموقف فى حالة فوز الإخوان فى الانتخابات بالحكم، حدث ما لم يكن فى الحسبان، فقامت ثورة 23 يوليو 1952، وكان ما كان من إلغاء الأحزاب السياسية وتعطيل العمل بدستور 1923 ثم إلغائه، ولم يبق على المسرح السياسى المصرى سوى الإخوان المسلمين الذين كانت علاقتهم برجال الثورة واضحة، وهنا بدأ الإنجليز البحث عن صفقة سياسية جديدة يعقدونها مع الإخوان.
ولطالما كان رءوف عباس يحسم القضايا الخلافية من خلال حرصه الدءوب على متابعة ما كانت تفرج عنه دور الأرشيف البريطانى والأمريكى، فيسارع فى نشر الوثائق ومحاضر الجلسات السرية المهمة ليدعم بها تحليلاته، ويفند بها الروايات الإخوانية المضطربة؛ مثلما نشر محضر محادثة بين المستر إيفانز (المستشار الشرقى للسفارة البريطانية) والمرشد العام للإخوان المسلمين فى 24 فبراير 1953 والتى أوضحت - بما لا يقبل الشك - وجود اتصالات سرية تمت بين الإنجليز والإخوان من وراء مجلس قيادة الثورة؛ حيث لم يعلم بها إلا بعد مرور ثلاثة شهور!. لقد أبدى الإخوان فى تلك الجلسات السرية عدم ممانعتهم الارتباط بمعاهدات سرية مع الغرب – وبريطانيا بالذات – وذلك باعتبارها - بحسب ما جاء على لسان الهضيبى :" أقرب الشعوب إلى الإسلام وأصلحها لصداقة المسلمين" !.
ووفقاً لهذه المحادثات كان الإخوان سيسمحون لبريطانيا وحلفائها باستخدام القواعد العسكرية فى حالة تعرض المنطقة للهجوم . ينتهى رءوف عباس من قراءته التحليلية للوثائق البريطانية بأن الإخوان كانوا يرسمون إستراتيجية خاصة بهم بمعزل عن مجلس قيادة الثورة الذى كانوا يعدون أنفسهم لوراثة دوره فى حكم مصر. وكان الإنجليز، فى الوقت نفسه، يعدون العدة لاتخاذ الإخوان آداة معارضة ضد مجلس قيادة الثورة. بيد أن الأخير تيقظ لخطورة المسألة وقرر الإطاحة بهم وحل الجماعة واعتقال كوادرها فى 14 يناير 1954. وبذلك طوى مجلس قيادة الثورة صفحة هامة من تاريخ الإخوان المسلمين.
كانت هذه هى خلاصة المقاربة النقدية على المستوى الأكاديمى الموضوعى، فى حين جاءت مقاربة رءوف عباس على مستوى النقد التفسيرى نتاجاً لمعايشته ومتابعته الدقيقة للمشهد السياسى بعين المؤرخ المحترف والمثقف السياسى الواعى والمتسلح بالخبرة التاريخية التى جعلت آراءه محكمة ومتماسكة وقوية. فقد تابع التطورات فى عقد السبعينات عند إطلاق السادات سراح المعتقلين (وخاصة الإخوان المسلمين)، ودعمه لهم فى مواجهة الإنتفاضة الطلابية التى قادها اليسار (الناصريون والماركسيون)، فبدت الدولة عندئذ حاضنة للجماعات الإسلامية، ووفرت لهم الدعم المادى والأمنى حتى نمت وترعرعت، ونشطت بقوة فى إعداد كوادرها اللازمة لحركتها، وأحسنت الاستفادة من حاجة السلطة إليها، ومن توجهات السلطة فى نقد الفترة الناصرية وإهالة التراب عليها. ولم تحاول الجماعة الاصطدام بالنظام حتى كان عام 1977، عندما أنعش نجاح الثورة الإيرانية آمال التيار الإسلامى فى بناء المجتمع الإسلامى الذى تحلم به، واستفزها احتضان السادات لشاه إيران رغم أن حلفيته أمريكا تخلت عنه ورفضت إقامته فى أرضيها، فجاهرت الجماعات الإسلامية بانتقاد موقف السادات، وأحست بقوتها، وبأنها لم تعد فى حاجة إلى النظام، فأنهت تحالفها معه، وبدأت تصطدم به، فتصاعد إيقاع العنف حتى بلغ الذروة باغتيال السادات، الذى كان كمن سعى لإخراج المارد من القمقم ظنا منه أنه سيسخره لخدمته، فاذا به يعصف بمن أطلق له العنان.
وتعود من جديد جماعة الإخوان المسلمين إلى العمل فى " العهد اللامباركى "، ولكن خارج إطار الشرعية أيضاً ، بيد أنها نجحت فى الترويج لنفسها والانتشار فى الأحياء الشعبية، وجاء فى حوار أجراه مجدى مهنا مع رءوف عباس (فى 29 يوليو 2007) :" لقد عملوا (الإخوان المسلمين) بطريقة جيدة لا تملك إلا أن تصفق لهم عليها، سواء اتفقت معهم أو لم تتفق. لقد بدأوا فى تقديم الخدمات الاجتماعية فى الوقت الذى ضعف فيه دور الدولة فى هذه الخدمات (مستوصفات علاجية، مدارس حضانة، مدارس إبتدائى، وبعد ذلك بدأوا يتدرجون فى المدارس). ولكنهم يقدمون هذه الخدمات للناس بشكل إنتقائى: للمسلمين فقط فى الأحياء الشعبية. وراحت الجمعيات القبطية والكنسية كرد فعل تعمل الشىء نفسه، حتى وصل الأمر إلى فرز فى سوق العمل فالمسلم لا يوظف إلا مسلماً والقبطى لا يوظف إلا قبطياً.
والأمر الآخر الذى لاحظه رءوف عباس أن الجماعات الإسلامية ركزت نشاطها على كليات التربية (وهو ما لم يلتفت إليه الكثيرون) وبالتالى انتجوا أفواجاً من المدرسين طوال السبعينات ومعظم الثمانينات من الذين تأثروا ليس فقط بالإخوان المسلمين وإنما بالفكر الوهابى المنغلق الذى ينتمى إلى ثقافة أخرى والذى يرفض الآخر الدينى ويعتبر من ليس مسلماً فهو كافر. وبالتالى بدلاً من التركيز على طلاب الجامعة بشكل عام، كان تركيزهم الأساسى على من سيعملون على تربية المواطنين. وهذا ما وسع من قواعدهم الشعبية المنظمة.
ومن جانب آخر رصد رءوف عباس استمرارية الخط السياسى بنفس قواعد اللعبة: فالإخوان يتجنبون الصدام المباشر مع السلطة، ويبحثون عن فصيل سياسى معارض يثير قلق النظام ويتداخلون معه، إلا أنهم فى الوقت نفسه وبنفس الطابع الانتهازى لا يثبتون معه على موقف واضح ومحدد ، على نحو ما فعلوه مع " حركة كفاية" التى كان رءوف عباس أحد أبرز أعضائها، فيروى لنا كشاهد عيان ومشارك فى المشهد : " أن الأخوان المسلمين أبدوا موقفاً إنتهازياً مع حركة كفاية؛ فنجدهم يقفون مع كفاية ليحققوا مكسباً مؤقتاً، عندما يكون بينهم وبين النظام مشكلة ، ثم ينسحبون ويختفون من النشاط عندما يلوح لهم النظام بمنديل أخضر. وأنهم مستعدون لتوظيف الآخرين لخدمتهم ، وليس عندهم استعداد لخدمة الأخرين". وفى تقدير رءوف عباس أن أحد أسباب هذه الإنتهازية أنهم طامعون فى السلطة وغير مقتنعين بفكرة " تكوين جبهة وطنية" تضم كافة القوى السياسية من مختلف الإتجاهات والتيارات، تعمل على وضع ميثاق للعمل الوطنى، يصبح الجميع بموجبه شركاء فى "عملية البناء والإنقاذ".
ولطالما أكد مراراً وتكراراً أهمية تشكيل " جبهة وطنية " كحل أساسى لكل مجتمع يمر بظروفنا، وأن دور هذه الجبهة الوطنية رفع ركام ما حدث ، وإقامة بناء جديد، وانقاذ ما يمكن انقاذه. واعتبر رءوف عباس أن اقناع الناس أولاً بأهمية وجود هذه الجبهة وما يمكن أن تفعله من أجلهم شرطاً أساسياً لجذب الجماهير بالوقوف وراءها وتدعيمها.
ترى ما الذى كان سيقوله أو كان سوف يكتبه رءوف عباس لو أطال الله عمره ليرى أن ثورة الشباب التى تنبأ هو نفسه بوقوعها قبل خمس سنوات من قيامها، قد جاءت إلى السلطة " بالفصيل الطريد" الذى وصفه فى واحدة من دراساته بأنه " نجح فى تبديد طاقات الحركة السياسية لقطاع عريض من الجماهير المصرية"، إنه الفصيل الذى يسعى دوماً إلى القفز فوق كاهل القوى السياسية للوثوب على السلطة ووضعها بين قبضتيه؟
رحم الله فقيدنا الغالى، فارس القلم ، رمز الوطنية، مثال شرف الكلمة ، الأب والصديق الحميم ، الذى سنظل بإذن الله أوفياء له ، ساهرين على حفظ تراثه الخالد الملىء بالنظرات والعبر ، داعين الله عز وجل أن يسكنه فسيح جناته.
د. ناصر أحمد إبراهيم
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المساعد
آداب القاهرة